فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ نافع، وأبو عمرو، وجماعة: {منساته } بألف، وأصله منسأته، أبدلت الهمزة ألفًا بدلًا غير قياسي.
وقال أبو عمرو: أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقًا، فإن كانت مما لا تهمز، فقد احتطت، وإن كانت تهمز، فقد يجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز.
وقرأ ابن ذكوان وجماعة، منهم بكار والوليدان بن عتبة وابن مسلم: {منسأته} بهمزة ساكنة، وهو من تسكين التحريك تخفيفًا، وليس بقياس.
وضعف النحاة هذه القراءة، لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل التأنيث ساكنًا غير الفاء.
وقيل: قياسها التخفيف بين بين، والراوي لم يضبط، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدًا على سكون هذه القراءة قول الراجز:
صريع خمر قام من وكأته ** كقومة الشيخ إلى منسأته

وقرأ باقي السبعة بالهمز مفتوحة، وقرىء بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبًا وحذفًا، وعلى وزن مفعالة: {منساءة} .
وقرأت فرقة، منهم عمر بن ثابت، عن ابن جبير: مفصولة حرف جر وسأته بجر التاء، قيل: ومعناه من عصاه، يقال لها: ساة القوس وسيتها معًا، وهي يدها العليا والسفلى، سميت العصا ساة القوس على الاستعارة، ولاسيما إن صح النقل أنه اتخذها من شجر الخروب قبل موته، فيكون حين اتكأ عليها، وهي كما قطعت من شجرة خضراء، قد اعوجت حتى صارت كالقوس.
ألا ترى أنك إذا اتكأت على غصن أخضر كيف يعوج حتى يكاد يلتقي طرفاه؟ فيها لغتان: ساة وسية، كما يقال: قحة وقحاة، والمحذوف من ساة وسية.
{فلما خر} أي سقط عن العصا ميتًا، والظاهر أن الضمير في خر عائد على سليمان.
وقيل: إن لم يمت إلى أن وجد في سفر مضطجعًا، ولكنه كان في بيت مبني عليه، وأكلت الأرضة عتبة الباب حتى خر الباب، فعلم موته.
وقال ابن عباس: مات في متعبده على فراشه، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة، أي عتبة الباب، فلما خر، أي الباب.
انتهى، وهذا فيه ضعف، لأنه لو كانت المنسأة هي العتبة، وعاد الضمير عليها، لكان التركيب: فلما خرت، بتاء التأنيث، ولا يجيء حذف مثل هذه التاء إلا في ضرورة الشعر، ولا يكون من ذكر المعنى على معنى العود لأنه قليل.
وقرأ الجمهور: {تبينت} ، مبنيًا للفاعل، فاحتمل أن يكون من تبين بمعنى بان، أي ظهرت الجن، والجن فاعل، وإن وما بعدها بدل من الجن.
كما تقول: تبين زيد جهله، أي ظهر جهل زيد، فالمعنى: ظهر للناس جهل الجن علم الغيب، وأن ما ادعوه من ذلك ليس بصحيح.
واحتمل أن يكون من تبين بمعنى علم وأدرك، والجن هنا خدم الجن، وضعفتهم {أن لو كانوا} أي لو كان رؤساؤهم وكبراؤهم يعلمون الغيب، قاله قتادة.
وقال الزمخشري: أو علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم، وأنهم لا يعلمون الغيب، وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم، وإنما أريد بهم التهكم كما يتهكم بمدعي الباطل إذا دحضت حجته وظهر إبطاله، كقولك: هل تبينت أنك مبطل وأنت لا تعلم أنه لم يزل لذلك متبينًا؟ انتهى.
ويجىء تبين بمعنى بان وظهر لازمًا، وبمعنى علم متعديًا موجود في كلام العرب.
قال الشاعر:
تبين لي أن القماءة ذلة ** وأن أعزاء الرجال طيالها

وقال آخر:
أفاطم إني ميت فتبيني ** ولا تجزعي على الأنام بموت

أي: فتبيني ذلك، أي اعلميه.
وقال ابن عطية: ذهب سيبويه إلى أن أن لا موضع لها من الإعراب، إنما هي موزونة، نحو: إن ما ينزل القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين، لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم.
فما لبثوا: جواب القسم، لا جواب لو.
وعلى الأقوال، الأول جواب لو.
وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ: {تبينت الجن} بنصب الجن، أي تبينت الإنس الجن، والمعنى: أن الجن لو كانت تعلم الغيب ما خفى عليها موته، أي موت سليمان.
وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة والضعة وهو ميت.
وقرأ ابن عباس، فيما ذكر ابن خالويه ويعقوب بخلاف عنه: {تبينت } مبنيًا للمفعول؛ وعن ابن عباس، وابن مسعود، وأبيّ، وعلي بن الحسن، والضحاك قراءة في هذا الموضع مخالفة لسواد المصحف ولما روي عنهم، ذكرها المفسرون، أضرب عن ذكرها صفحًا على عادتنا في ترك نقل الشاذ الذي يخالف للسواد مخالفة كثيرة. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)}.
ثم ذكر سبحانه من عباده المنيبين إليه داود، وسليمان كما قال في داود: {فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] وقال في سليمان: {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34]، فقال: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلًا} أي: آتيناه بسبب إنابته فضلًا منا على سائر الأنبياء.
واختلف في هذا الفضل على أقوال: فقيل: النبوّة.
وقيل: الزبور.
وقيل: العلم.
وقيل: القوّة كما في قوله: {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا الأيد} [ص: 17].
وقيل: تسخير الجبال كما في قوله: {ياجبال أَوّبِى مَعَهُ} وقيل: التوبة، وقيل: الحكم بالعدل كما في قوله: {ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً في الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} [ص: 26].
وقيل: هو: إلاّنة الحديد كما في قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} وقيل: حسن الصوت، والأولى أن يقال: إن هذا الفضل المذكور هو ما ذكره الله بعده من قوله: {يا جِبَالٍ} إلى آخر الآية، وجملة {ياجبال أَوّبِى مَعَهُ} مقدّرة بالقول، أي: قلنا يا جبال.
والتأويب: التسبيح كما في قوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ} [ص: 18].
قال أبو ميسرة: هو: التسبيح بلسان الحبشة.
وكان إذا سبح داود سبحت معه، ومعنى تسبيح الجبال: أن الله يجعلها قادرة على ذلك، أو يخلق فيها التسبيح معجزة لداود.
وقيل: معنى {أوّبي} سيري معه، من التأويب الذي هو سير النهار أجمع، ومنه قول ابن مقبل:
لحقنا بحيّ أوّبوا السير بعد ما ** دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح

قرأ الجمهور: {أوّبى} بفتح الهمزة، وتشديد الواو على صيغة الأمر، من التأويب: وهو: الترجيع، أو التسبيح، أو السير، أو النوح.
وقرأ ابن عباس، والحسن، وقتادة، وابن أبي إسحاق {أوبى} بضم الهمزة أمرًا من آب يئوب: إذا رجع، أي: ارجعي معه.
قرأ الجمهور: {والطير} بالنصب عطفًا على {فضلًا} على معنى: وسخرنا له الطير، لأن إيتاءه إياها تسخيرها له، أو عطفًا على محل: {يا جبال} لأنه منصوب تقديرًا، إذ المعنى: نادينا الجبال، والطير.
وقال سيبويه، وأبو عمرو بن العلاء: انتصابه بفعل مضمر على معنى: وسخرنا له الطير.
وقال الزجاج، والنحاس: يجوز: أن يكون مفعولًا معه كما تقول: استوى الماء، والخشبة.
وقال الكسائي: إنه معطوف على {فضلًا} لكن على تقدير مضاف محذوف، أي: آتيناه فضلًا، وتسبيح الطير.
وقرأ السلمي، والأعرج، ويعقوب، وأبو نوفل، وابن أبي إسحاق، ونصر بن عاصم، وابن هرمز، ومسلمة بن عبد الملك بالرفع عطفًا على لفظ الجبال، أو على المضمر في: {أوّبي} لوقوع الفصل بين المعطوف، والمعطوف عليه {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} معطوف على {آتيناه} أي: جعلناه لينًا؛ ليعمل به ما شاء.
قال الحسن: صار الحديد كالشمع يعمله من غير نار.
وقال السدّي: كان الحديد في يده كالطين المبلول، والعجين، والشمع يصرفه كيف يشاء من غير نار، ولا ضرب بمطرقة، وكذا قال مقاتل، وكان يفرغ من عمل الدرع في بعض يوم.
{أَنِ اعمل سابغات} في أن هذه وجهان: أحدهما: أنها مصدرية على حذف حرف الجرّ، أي: بأن اعمل، والثاني أنها المفسرة لقوله: {وَأَلَنَّا} وفيه نظر؛ لأنها لا تكون إلاّ بعد القول، أو ما هو في معناه.
وقدّر بعضهم فعلًا فيه معنى القول، فقال التقدير: وأمرناه أن أعمل.
وقوله: {سابغات} صفة لموصوف محذوف، أي: دروعًا سابغات، والسابغات الكوامل الواسعات، يقال: سبغ الدرع، والثوب، وغيرهما: إذا غطى كل ما هو عليه، وفضل منه فضلة.
{وَقَدّرْ في السرد} السرد نسج الدروع، ويقال: السرد والزرد كما يقال: السراد، والزراد لصانع الدروع، والسرد أيضًا الخرز.
يقال: سرد يسرد: إذا خرز، ومنه سرد الكلام: إذا جاء به متواليًا، ومنه حديث عائشة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم.
قال سيبويه: ومنه سريد: أي: جري، ومعنى سرد الدروع: إحكامها، وأن يكون نظم حلقها ولاء غير مختلف، ومنه قول لبيد:
سرد الدروع مضاعفًا أسراده ** لينال طول العيش غير مروم

وقول أبي ذؤيب الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما ** داود إذ صنع السوابغ تبع

قال قتادة: كانت الدروع قبل داود ثقالًا، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع الخفة والحصانة، أي: قدّر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه، فلا تقصد الحصانة فيثقل، ولا الخفة فيزيل المنعة، وقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة، أي: لا تعملها صغيرة فتضعف ولا يقوى الدرع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فتثقل على لابسها.
وقيل: إن التقدير هو في المسمار، أي: لا تجعل مسمار الدرع دقيقًا فيقلق، ولا غليظًا فيفصم الحلق.
ثم خاطب داود، وأهله، فقال: {واعملوا صالحا} أي: عملًا صالحًا كما في قوله: {اعملوا ءالَ دَاوُودُ شاكرا} ثم علل الأمر بالعمل الصالح بقوله: {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: لا يخفى عليّ شيء من ذلك.
{ولسليمان الريح} قرأ الجمهور: {الريح} بالنصب على تقدير: وسخرنا لسليمان الريح كما قال الزجاج، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بالرفع على الابتداء، والخبر، أي: ولسليمان الريح ثابتة أو مسخرة، وقرأ الجمهور: {الريح} وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وخالد بن إلياس: {الرياح} بالجمع.
{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي: تسير بالغداة مسيرة شهر، وتسير بالعشي كذلك، والجملة إما مستأنفة لبيان تسخير الريح، أو في محل نصب على الحال.
والمعنى: أنها كانت تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين.
قال الحسن: كان يغدو من دمشق، فيقيل بإصطخر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصطخر، فيبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} القطر: النحاس الذائب.
قال الواحدي: قال المفسرون: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وإنما يعمل الناس اليوم بما أعطي سليمان، والمعنى: أسلنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود، وقال قتادة: أسال الله له عينًا يستعملها فيما يريد {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ} من مبتدأ، ويعمل خبره، ومن الجنّ متعلق به، أو بمحذوف على أنه حال، أو من يعمل معطوف على الريح، ومن الجنّ حال، والمعنى: وسخرنا له من يعمل بين يديه حال كونه من الجنّ بإذن ربه، أي: بأمره.
والإذن مصدر مضاف إلى فاعله، والجار والمجرور في محل نصب على الحال، أي: مسخرًا أو ميسرًا بأمر ربه {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي: ومن يعدل من الجنّ عن أمرنا الذي أمرناه به: وهو: طاعة سليمان {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} قال أكثر المفسرين: وذلك في الآخرة.
وقيل: في الدنيا.
قال السدّي: وكل الله بالجنّ ملكًا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه بذلك السوط ضربة فتحرقه.
ثم ذكر سبحانه ما يعمله الجنّ لسليمان، فقال: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء} ومن في قوله: {مِن محاريب} للبيان، والمحاريب في اللغة كل موضع مرتفع، وهي: الأبنية الرفيعة، والقصور العالية.
قال المبرد: لا يكون المحراب إلاّ أن يرتقى إليه بدرج، ومنه قيل: للذي يصلي فيه: محراب؛ لأنه يرفع ويعظم.
وقال مجاهد: المحاريب دون القصور.
وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار، ومنه قول الشاعر:
وماذا عليه إن ذكرت أوانسا ** كغزلان رمل في محاريب أقيال

وقال الضحاك: المراد بالمحاريب هنا: المساجد، والتماثيل جمع تمثال، وهو كل شيء مثلته بشيء، أي: صوّرته بصورته من نحاس، أو زجاج، أو رخام، أو غير ذلك.
قيل: كانت هذه التماثيل صور الأنبياء، والملائكة، والعلماء، والصلحاء، وكانوا يصوّرونها في المساجد؛ ليراها الناس، فيزدادوا عبادة واجتهادًا.
وقيل: هي تماثيل أشياء ليست من الحيوان.
وقد استدل بهذا على أن التصوير كان مباحًا في شرع سليمان، ونسخ ذلك بشرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
والجفان جمع جفنة، وهي: القصعة الكبيرة.
{الجواب} جمع جابية، وهي: حفيرة كالحوض.
وقيل: هي الحوض الكبير يجبي الماء، أي: يجمعه.
قال الواحدي: قال المفسرون: يعني: قصاعًا في العظم كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها.
قال النحاس: الأولى إثبات الياء في الجوابي، ومن حذف الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا تغيرها عن حالها، فلما كان يقال جواب، ودخلت الألف واللام أقرّ على حاله، فحذف الياء.
قال الكسائي: يقال: جبوت الماء، وجبيته في الحوض، أي: جمعته، والجابية الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل.